دافيد فيكتوروف
ترجمة وتقديم
سعيد بنكراد
نقدم لقراء العربية كتابا جديدا عن الإشهار يحمل العنوان التالي: الإشهار والصورة، صورة الإشهار(1978)، لمؤلفه دافيد فيكتوروف (1914-1979)، وهو باحث سوسيولوجي فرنسي عُرف باهتمامه الكبير بالجانب السيكولوجي في التواصل الإشهاري، وقد خصص لذلك مؤلفا تناول فيه هذا البعد وحده، كما يدل على ذلك عنوانه سيكولوجية الإشهار(1970).
ويعود في الكتاب الذي قمنا بترجمته ليبحث في ذاكرتي الإشهار البعيدة والقريبة: أصوله الأولى وتاريخه في الحاضر ورهاناته في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة. إلا أن اهتمامه سينصب أساسا على الدور الذي تقوم به الصورة ضمن آلياته في الإقناع والحث على الشراء. فلا يمكن للإشهاري، في تصوره، وفي تصور كل الفاعلين الجدد في هذا الميدان، أن يقول أي شيء دون الاستعانة بالنافذة البصرية وقدرتها على استثارة الحسي من خلال الحسي ذاته، بعيدا عن عقلانية المفاهيم وسلطتها في التحديد المسبق للأحاسيس، فكل إحساس هو في الأصل نسخة من نفسه قبل أن يستوطن اللفظ الذي يُجْلي مضمونه، “فلا وجود لمعادل لفظي لإحساس ملون”، كما يقول بول فاليري (1).
وهذا ما تؤكده طبيعة الوصلات التي تعج بها الشوارع وتبثها القنوات التلفزية وتنشرها المجلات المكتوبة. فلم يعد اللفظ يلعب سوى دور بسيط في عملية إثارة انتباه المستهلك المحتمل إلى منتج موضوع للبيع. وهو ما يعني أن الإشهاري لا يصب مضامين جاهزة في صورة خرساء، بل يُضمن سيرورة التمثيل البصري واللفظي كتلة هائلة من الانفعالات هي أصل الرغبة وأصل الحاجات وهي السبيل إلى تلبيتها أيضا.
وكان بذلك يرد على كل الذين شككوا في قدرة الصورة على قول شيء آخر غير استنساخ موضوعات تعرضها على العين بشكل محايد. فالإشهار في تصورهم هو لفظ في المقام الأول، إنه يمدح ويعدد مزايا المنتج وفضائله على الذات الفردية والجماعية استنادا إلى تعليقات “تشرح” سياق الشراء ودواعي الاستهلاك؛ وتلك وسيلتها في الإقناع والاقتناء. بعبارة أخرى، إن الصورة للإيضاح فقط، أما المضمون الحقيقي للوصلة فمودع في الإرسالية اللسانية، إذ من خلالها وحدها يستطيع المتلقي معرفة ما تود الوصلة قوله. وهو الموقف التي عُرفت به مجموعة من الخطاطات التواصلية الكلاسيكية في الإشهار، ومنها خطاطات aida ولاسويل وداغمار، وذاك أيضا كان موقف بعض دعاة الإشهار المرجعي في الثمانينيات من القرن الماضي.
وهي صيغة أخرى للقول، إن الصورة “ظاهرة سلبية لارتباطها بالحواس”، إنها تحتل مرتبة ثانية في علاقتها باللفظ. إن اللغة وحدها تمتلك القدرة على التجريد وتسمية مناطق النفس والوجود والفصل بينها. فنحن، حسب هذا التصور، لا ندرك مضمون الصورة إلا إذا قمنا بتحويله إلى وجه مفهومي مجرد، هو ما تحتفظ به الذاكرة والقابل وحده للتداول. والحاصل أن المستهلك لا يتوقف عند الصورة إلا من أجل “قراءة” ما يقوله النص اللفظي في الوصلة بشكل صريح.
وهذا أمر تفنده طبيعة التمثيل البصري ذاته. فعلى عكس ما توهم به حالات الاستنساخ، هناك دائما فاصل بين الصورة والعالم المرئي في الخارج، تُعد الأولى لوحة ممتدة في العين واستيهاماتها، أما الثاني فمتحول في الطبيعة وحدها، إنه أسير زمنية تستوعب كل واجهات الوجود داخل منطق التتابع اللامتناهي داخلها. لذلك، لا تقدم الصورة منتجا “حافيا” لا يحتضنه أي سياق، بل تعيد صياغته ضمن انفعالات الذات ورغبتها في أن تكون أكثر من مجرد “أنا” معزولة تستهلك النفعي في المواد وفي القيم. فهذه الرغبة وحدها قادرة على دفع المتلقي إلى الانتشاء بما يتم تمثيله في الصورة باعتباره تجربة حسية مصدرها العين لا المفاهيم. فما يقوله الخطاب اللفظي لا يشكل، في حقيقة الأمر، سوى “تبرير بَعْدي” يكتفي بصب مضمون الصورة في كلمات تُرسي قاعدة لمعنى قد يبدو “جليا” في الذهن، ولكنه لن يكون هو الباعث على الشراء في جميع الحالات.
وهو ما يعني أن الصورة لا “تستثير” فحسب، ولا تشرح البعد اللفظي من خلال إضافة “جزئية بصرية” تتعرف عليها العين في ما هو مودع في التسميات والتعليق المصاحب، إنها مستقلة في طرائق الإقناع والإبلاغ، وفي استثارة ما توده من انفعالات. إنها لغة بنحوها وتركيبها وتأليفاتها الدلالية المتنوعة. فهي في الأصل حاصل تسنينات اجتماعية مسبقة لقيم أودعها الإنسان في الشكل واللون والخط وزوايا الرؤية. قد لا يتعلق الأمر بخاصيات لها صرامة اللفظي وأحكامه، ولكنها مع ذلك لا تُسَلم نفسها إلا من خلال استنفار معرفة تستعيد الذات من خلالها ما هُرب في غفلة منها في تفاصيل العادي والمألوف والمتداول. لذلك عادة ما يلتقط المتلقي “كلية” الصورة قبل أن ينتبه إلى “خطية” الخطاب اللفظي.
بعبارة أخرى، إن الصورة لا تقترح مضمونا جاهزا، إنها تداهم الوجدان وتوجهه نحو ما نسيه أو تناساه أو استبطنه خلسة. وبذلك، فإن قوتها الإقناعية تكمن في قدرتها على التأثير المباشر دفعة واحدة في اللاشعور، على عكس المضمون اللفظي الذي يستدعي “طولية” في الزمان. إنها ليست لحظة “للتأمل” العقلي، بل هي اندفاع “حسي” نحو الفعل، ما يسميه ريجيس دوبري، ” طفولة العلامة “، فهي من طبيعة رمزية ولكنها لا تمتلك الخصائص الدلالية للسان”(2). وتلك ميزة تؤكد أن مصدر نجاح الوصلة هو استعمالها الجيد للطاقات التعبيرية للصورة، لا “جزالة ” اللفظ وقوة الشرح المصاحب.
وهذا معناه أن مصدر الإقناع في الإشهار لا يكمن في ما يمكن أن يقدمه “منطق الملفوظ أو الحجة، بل ما يمكن أن يقوله منطق الحكاية والانخراط. فنحن لا نصدق ما يقال لنا في الحكايات، ولكننا نحرص مع ذلك على سماعها”(3). وتلك هي القوة الضاربة ” للمحتمل”، إنه لا يُقنع بالبينة والبرهان، بل يُغري بالتمثيل المشخص، سواء كان ذلك من خلال الحكي أو من خلال حسية الصورة .
إن رفض فكرة الاستنساخ البصري هاته هي في الواقع رفض للفكرة القائلة إن المنتج مجرد شيء مادي تحكمه “نفعية” صريحة. فلا يشكل الطابع المادي فيه سوى واجهة عرضية قد تكون بلا قيمة في غالب الأحيان، ذلك أن ما تلتقطه العين هو لون وشكل وخط وامتداد وإيقاع ووِضعة. وهو ما يعني أن الصورة لا تقدم للعين أشياء، بل تستعير من الوجود واجهات هي ما تقوم بتمثيله استنادا إلى خاصيات الإدراك البصري. فالماء واحد في الوجود، ولكنه متعدد في المظاهر، إنه شلالات وسيول وبحار ووديان، إن الأساسي فيه ليس “مادة” بل كونه منعشا وجارفا عنيفا، ومالحا ورقراقا وعذبا زلالا. وقد يكون مصدر ذلك هو طبيعة تمثلنا للكون ذاته، فالتمثيل البصري متأصل فينا، فنحن لا ندرك “سر” المفاهيم إلا من خلال تمثلها متحيزة في فضاء متعاقبة في زمان.
تؤكد حالات التمايز هاته أن ما يتم تمثيله في الإشهار والترويج له ليس المنتج في حقيقته المادية ذات النفع الأكيد، بل فقط مظهر من مظاهره. فنحن نبحث في محيطنا عن “الليونة” و”الرقة” و”النعومة” و”الصلابة” و”النقاء” و”الطهارة” و”البياض”، ونشتري مع السيارة المظهر والزهو والرقي الاجتماعي. تماما كما نتطهر بماء البحر ونلهو ونحيي الطفولة فينا، أو قد نطلق، من خلال امتداد الماء وعمقه، رغبة دفينة من إسارها في العودة إلى الأصل الأول حيث كان “على وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه الماء” كما جاء في الكتاب المقدس.
إننا في جميع الحالات، في الإشهار وخارجه، نستهلك قيما ومواقف ولحظات وجودية. فلأننا لا نكتفي باستهلاك مواد تلبي حاجة مباشرة، فإن “الإشهار يدلنا على ما يجب أن نستهلكه من خلال هذه المواد”. هناك في ما هو أبعد من السلوك النفعي رغبات أخرى لا يمكن أن تشبعها سوى صور مفتوحة على الحلم والشعر والاستيهامات. وهو ما يعني أن موضوعات العالم وأشيائه ليست مكتفية بذاتها، أي ليست “براكسيسا” خالصا، إنها تتضمن غاية أخرى غير وجهها العملي، ولو لم يكن الأمر كذلك لما بحثنا في الصورة عما لا يمكن أن يوجد إلا فيها.
بعبارة أخرى، تبدو موضوعات العالم موزعة بين استعمال يربطها بالنفعي في الوجود، وبين دلالات تمنحها موقعا ضمن المخيال الإنساني، ما كان يسميه بارث حالات ” التوتر الذي يفصل بشكل دائم بين وظيفة الشيء ومعناه، فالوظيفة متحركة فيه، أما معناه فثابت، إنه ما يودَع ضمن خزان ما نسميه الرمزية” (4)، فاستنادا إلى هذه الرمزية وحدها يمكن للصورة أن تقترح على العين شيئا آخر غير ما ألفته في معيشها اليومي.
وخلاصة ذلك أن الإشهار لا يدعونا إلى شراء منتجات، إنه “يضيف إليها ” دفئا”، ودون هذا الدفء ستظل المنتجات بلا روح”، كما يقول مؤلف الكتاب. وهي صيغة أخرى للقول إن الأساسي ليس مادة الاستهلاك، بل الخطاب الحامل لها.
وبعد،
لقد قدم لنا هذا الكتاب معرفة هامة لا تخص صناعة الوصلة، ولا تتعلق بكيفية إنتاج صور “جيدة”، ولكنها تعلمنا كيف نقرأ الصور التي يمطرنا بها الإشهار يوميا. لقد فعل ذلك من خلال بحثه في طرق الإقناع وكل الوسائل التي يستعملها من أجل “توريطنا” في شراء لا نستطيع رده. وفعل ذلك من خلال التفصيل في ما يمكن أن تقدمه البلاغة لدراسة الصورة الإشهارية محيلا على مقترحات جاك دوران في هذا المجال، وفعل ذلك أيضا وهو يتحدث عن مجهودات السميائيين ومقترحاتهم في دراسة الصورة عامة، والصورة الإشهارية خاصة. وقدم في هذا الشأن عرضا مفصلا عن أعمال جورج بينينو، أحد الرواد الأوائل للتحليل السميولوجي، خاصة كتابه “ذكاء الإشهار”، دون أن يغفل الحديث عن رولان بارث، وهو أحد مؤسسي الخطاب السميولوجي حول الإشهار.
نتمنى أن يجد القارئ في هذا الكتاب ما قد يلبي بعض حاجات البحث في ميدان الصورة عامة، والصورة الإشهارية خاصة .
——
هوامش
1-Régis Debray : Vie et mort de l’image, une histoire du regard en occident, éd Gallimard,1992, p.64
2-نفسه ص 60
3- Jean Baudrillard : Le système des objets, éd Gallimard,1968,p.232
4-Roland Barthes : L’aventure sémiologique, éd seuil ,1985,p.259
المصدر : https://www.saidbengrad.net/?p=6469